فصل: سورة الشعراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة الشعراء:

مكيّة، إلاّ قوله: {والشعراء يتّبعهم الغاوون} إلى آخر السورة فإنّها مدنية، وهي خمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفاً، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ومائتان وسبع وعشرون آية.
أخبرنا أبو الحسين الخبازي قال: حدّثنا أبو الشيخ الأصفهاني قال: حدّثنا أبو العباس الطهراني قال: حدّثنا يحيى بن يعلى بن منصور قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدّثنا أبي عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُعطيت السورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل، وأُعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه السلام، وأُعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، وأُعطيت المفصّل نافلة.
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الماوردي الفارسي قال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن منصور الخيزراني ببغداد قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن حبيب قال: حدّثنا يعقوب بن يوسف قال: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا خارجة عن عبد الله عن إسماعيل بن أبي رافع عن الرقاشي وعن الحسن عن أنس أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضّلني بالحواميم والمفصّل ما قرأهن نبيّ قبلي.
وأخبرني كامل بن أحمد النحوي وسعيد بن محمد المقري قالا: أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر الشروطي قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، وبعدد مَن كذّب بعيسى وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 9):

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}
{طسم} اختلف القرّاء فيها وفي أُختَيها فكسر الطاء فيهن على الإمالة حمزة والكسائي وخلف وعاصم في بعض الروايات. وقرأ أهل المدينة بين الكسر والفتح وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقرأ غيرهم بالفتح على التضخيم، وأظهر النون في السين ههنا وفي سورة القصص أبو جعفر وحمزة للتبيين والتمكين، وأخفاها الآخرون لمجاورتها حروف الفم. وأمّا تأويلها فروى الوالبي عن ابن عباس قال: طسم قسم وهو من اسماء الله سبحانه، عكرمة عنه: عجزت العلماء عن علم تفسيرها. مجاهد: اسم السورة. قتادة وأبو روق: اسم من أسماء القرآن أقسم الله عزّ وجلّ به، القرظي أقسم الله سبحانه بطَوله وسنائه وملكه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثني أحمد بن عبيد الله بن يحيى الدارمي قال: حدّثني محمد بن عبده المصّيصي قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي قال: حدّثنا محمد بن بشر الرقّي قال: حدّثنا أبو عمر حفص بن ميسرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية طسم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاء طور سيناء والسين الاسكندرية والميم مكة».
وقال جعفر الصادق عليه السلام: الطاء طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم {تِلْكَ آيَاتُ} أي هذه آيات {الكتاب المبين * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ} قاتلٌ {نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} وذلك حين كذّبه أهل مكة فشق ذلك عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، نظيرها في الكهف.
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ذليلين قال: لو شاء الله سبحانه لأنزل عليهم آية يذلّون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله عزَّ وجل، ابن جريج: لو شاء لأراهم أمراً من أمره لا يعمل أحد منهم بمعصية.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي بن علي قال: حدّثني أبو حمزة الثمالي في هذه الآية قال: بلغنا والله أعلم أنّها صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان يخرج له العواتق من البيوت.
وبه عن أبي حمزة قال: حدّثني الكلبي عن أبي صالح مولى أم هاني أنّ عبد الله بن عباس حدّثه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أُمّية قال: سيكون لنا عليهم الدولة فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة، وهوان بعد عزة. وأمّا قوله سبحانه {خَاضِعِينَ} ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ففيه وجوه صحيحة من التأويل: أحدها: فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم لأنّ الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون، فجعل الفعل أوّلاً للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال، كقول الشاعر:
على قبضة مرجودة ظهر كفّه ** فلا المرء مستحي ولا هو طاعم

فأنّث فعل الظهر لأنّ الكفّ تجمع الظهر وتكفى منه كما أنّك مكتف بأن تقول: خضعت للأمر أن تقول: خضعتْ لك رقبتي، ويقول العرب: كلّ ذي عين ناظر إليك وناظرة إليك لأنّ قولك: نظرتْ إليك عيني ونظرتُ بمعنى واحد، وهذا شائع في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويعمد إلى الآخر فيجعل له الخبر كقول الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي ** طوين طولي وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي وترك الطول، قال جرير:
أرى مرّ السنين أخذن منّي ** كما أخذ السرار من الهلال

وقال الفرزدق:
نرى أرماحهم متقلّديها ** إذا صدئ الحديد على الكماة

فلم يجعل الخبر للأرماح وردّه إلى هم لكناية القوم وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط من وطول والأرماح من الكلام لم يفسد سقوطها معنى الكلام، فكذلك رد الفعل إلى الكناية في قوله أعناقهم؛ لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام ولأدّى ما بقى من الكلام عنها وكان فظلوا خاضعين لها واعتمد الفرّاء وأبو عبيد على هذا القول.
وقال قوم: ذكر الصفة لمجاورتها المذكر وهو قوله هم، على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى مذكر، وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى مؤنّث، كقول الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ** كما شرقت صدر القناة من الدم

وقال العجاج: لما رأى متن السماء ابعدت.
وقيل: لما كان الخضوع وهو المتعارف من بني آدم أخرج الأعناق مخرج بني آدم كقوله: {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وقوله سبحانه {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] ومنه قول الشاعر:
تمززتها والديك يدعو صباحه ** إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبُوا

وقيل: إنما قال خاضعين فعبّر بالأعناق عن جميع الأبدان، والعرب تعبّر ببعض الشئ عن كله كقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] وقوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] ونحوهما.
قال مجاهد: أراد بالاعناق ههنا الرؤساء والكبراء، وقيل: أراد بالأعناق الجماعات والطوائف من الناس، يقال: جاء القوم عنقاً أي طوائف وعصباً كقول الشاعر:
انَّ العراق وأهله عنق ** إِليك فهيت هيتا

وقرأابن أبي عبلة: فظلّت أعناقهم لها خاضعة.
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} أي وعظ وتذكير {مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ} في الوحي والتنزيل {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ} أخبار وعواقب وجزاء {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وهذا وعيد لهم {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} لون وصنف من النبات ممّا يأكل الناس والأنعام {كَرِيمٍ} حسن يكرم على الناس، يقال: نخلة كريمة إذا طاب حملها وناقة كريمة إذا كثر لبنها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن بختويه قال: حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي يوسف قالا: حدّثنا محمد بن يوسف الغزالي قال: حدّثنا سفيان عن رجل عن الشعبي في قوله: {أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} قال: الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنّة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرت {لآيَةً} لَدلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وحكمتي {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} لما سبق من علمي فيهم، قال سيبويه: {كَانَ} ههنا صلة، مجازه: وما أكثرهم مؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} بالنقمة من أعدائه {الرحيم} ذو الرحمة بأوليائه.

.تفسير الآيات (10- 33):

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)}
{وَإِذْ نادى} واذكر يا محمد إذ نادى {رَبُّكَ موسى} حين رأى الشجرة والنار {أَنِ ائت القوم الظالمين} لأنفسهم بالكفر والمعصية ولبني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب.
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} وقرأ عبيد بن عمير بالتاء أي قل لهما: ألا تتّقون؟ {قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي} من تكذيبهم إيّاي {وَلاَ يَنطَلِقُ} ولا ينبعث {لِسَانِي} بالكلام والتبليغ للعقدة التي فيه، قراءة العامة برفع القافين على قوله: {فَأَخَافُ} ونصبها يعقوب على معنى وأن يضيق ولا ينطلق {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة، وهذا كما تقول: إذا نزلت بي نازلة أرسلت إليك، أي لتعينني {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} يعني القتل الذي قتله منهم واسمه ماثون، وكان خباز فرعون، وقيل: على معنى: عندي ولهم عندي ذنب {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} به {قَالَ} الله سبحانه {كَلاَّ} أي لن يقتلوك {كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} سامعون ما يقولون وما تجابون، وإنّما أراد بذلك تقوية قلبيهما وإخبارهما أنّه يعينهما ويحفظهما {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} ولم يقل رسولا لأنه أراد المصدر أي رسالة ومجازه: ذو رسالة رب العالمين، كقول كثيّر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ** بسرَ ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة. وقال العباس بن مرداس:
إلاّ مَنْ مبلغٌ عنّا خفافاً ** رسولا بيت أهلك منتهاها

يعني رسالة فلذلك انتهاء، قالهُ الفرّاء.
وقال أبو عبيد: يجوز أن يكون الرسول في معنى الواحد والاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] وقيل: معناه كل واحد منا رسول رَبّ العالمين.
{أَنْ} أي بأن {أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} إلى فلسطين ولا تستعبدهم وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفاً فانطلق موسى إلى مصر، وهارون بها وأخبره بذلك فانطلقا جميعاً إلى فرعون، فلم يؤذَنْ لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البوّاب فقال لفرعون: ههنا إنسان يزعم أنّه رسول رب العالمين، فقال فرعون: ايذن له لعلّنا نضحك منه، فدخلا عليه وأدّيا إليه رسالة الله سبحانه وتعالى فعرف فرعون موسى لأنّه نشأ في بيته فقال له {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} صبيّاً {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} وهي ثلاثون سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} يعني قتل القبطي.
أخبرنا ابن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفرّاء قال: حدّثني موسى الأنصاري عن السري بن إسماعيل عن الشعبي انه قرأ {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي} بكسر الفاء ولم يقرأ بها غيره.
{وَأَنتَ مِنَ الكافرين} الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي، ربيناك فينا وليداً فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منّا وكفرت بنعمتنا، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس، وقال: إنَّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية.
فقال موسى {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي الجاهلين قبل أن يأتيني عن الله شيء، هذا قول أكثر المفسّرين وكذلك هو في حرف ابن مسعود وأنا من الجاهلين.
وقيل: من الضالّين عن العلم بأن ذلك يؤدي إلى قتله.
وقيل: من الضالّين عن طريق الصواب من غير تعمّد كالقاصد إلى أن يرمي طائراً فيصيب إنساناً.
وقيل: من المخطئين نظيره {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} [يوسف: 95] {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] وقيل: من الناسين، نظيره {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282].
{فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} إلى مدين {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} فهماً وعلماً {وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
اختلف العلماء في تأويلها، ففسّرها بعضهم على إقرار وبعضهم على الإنكار، فمن قال: هو إقرار قال: عدّها موسى نعمة منه عليه حيث ربّاه ولم يقتله كما قتل غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد وتركني فلم يستعبدني وهذا قول الفرّاء، ومن قال هو إنكار قال: معناه وتلك نعمة على طريق الاستفهام كقوله: {هذا رَبِّي} [الأنعام: 76-78] وقوله: {فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] وقول الشاعر: هم هم، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
لم أنس يوم الرحيل وقفتها ** ودمعها في جفونها عرق

وقولها والركب سائرة ** تتركنا هكذا وتنطلق

وهذا قول مجاهد، ثم اختلفوا في وجهها فقال بعضهم: هذا ردّ من موسى على فرعون حين امتنّ عليه بالتربية فقال: لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي فأىّ نعمة لك عليَّ؟
وقيل: ذكره إساءته إلى بني إسرائيل فقال: تمنُّ عليَّ أن تربّيني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل.
وقيل: معناه كيف تمنُّ علي بالتربية وقد استعبدت قومي؟ ومن أُهين قومه ذّل، فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليَّ.
وقال الحسن: يقول: أخذت أموال بني إسرائيل وأنفقت منها عليَّ واتّخذتهم عبيداً.
وقوله سبحانه {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي اتّخذتهم عبيداً، يقال: عبّدته وأعبدته، وأنشد الفرّاء:
علام يعبّدني قومي وقد كثرتْ ** فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان

وله وجهان: أحدهما: النصب بنزع الخافض مجازه: بتعبيدك بني إسرائيل.
والثاني: الرفع على البدل من النعمة.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} وأيّ شيء ربّ العالمين الذي تزعم أنّك رسوله إليَّ؟
{قَالَ} موسى عليه السلام {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} إنّه خلقها عن الكلبي.
وقال أهل المعاني: إن كنتم موقنين أي ما تعاينونه كما تعاينونه فكذلك فأيقنوا أنّ ربّنا هو ربّ السموات والأرض.
{قَالَ} فرعون {لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة محيلا لقوم موسى معجباً لقومه {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} فقال موسى مفهماً لهم وملزماً للحجة عليهم {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين * قَالَ} فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} يتكلّم بكلام لا يعقله ولا يعرف صحته.
فقال موسى {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} فقال فرعون حين لزمته الحجّة وانقطع عن الجواب تكبّراً عن الحق وتمادياً في الغي {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} المحبوسين.
قال الكلبي: وكان سجنه أشدّ من القتل؛ لأنه كان يأخذ الرجل إذا سجنه فيطرحه في مكان وحدهُ فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً، يهوى به في الأرض.
فقال له موسى حين توعدهُ بالسجن {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} يبيّن صدق قولي، ومعنى الآية: أتفعل ذلك إنْ أتيتك بحجّة بيّنة، وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان.
فقال له فرعون {فَأْتِ بِهِ} فإنّا لن نسجنك حينئذ {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} بيّن ظاهر أمرهُ، فقال: وهل غير هذا؟ {وَنَزَعَ} موسى {يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ}.